لطالما حمل الرخام معنىً مزدوجًا: مادة تقنية قابلة للنقش والتشكيل، ورمز بصري للقداسة والسلطة والجمال. استخدمته حضارات العالم القديمة في المعابد والقصور والتماثيل كي تعبّر عن القوة الدينية والسياسية، وفي كل ثقافة اكتسب غاية وإيحاءً خاصًّا. سنتتبع في هذا المقال أبرز محطات الرخام عبر التاريخ، وما الذي جعل هذا الحجر رمزًا يتكرر عبر الأزمنة
1. اليونان: الرخام لغةٌ للمقدّس والجمال المثالي
استخدم الإغريق الرخام لبناء المعابد ونحت التماثيل التي جسّدت آلهتهم وبطلانهم الأسطوريين. الرخام الأبيض (مثل رخام باروس وبنتيليك) كان يُقدَّر لقدرة الحجر على إبراز التفاصيل الدقيقة والملامح الطبيعية في التماثيل، ما جعله وسيطًا مثاليًا للاحتفاء بالمثل الجمالية والروحية لدى اليونان القديمة.

2. روما: الرخام أداة سياسة وعالمية المواد
لم تقتصر رومانيّة استخدام الرخام على التقليد الإغريقي، بل وسّعتها كمادة سيادية — استقدم الرومان أنواع ا وألواناً من المحاجر البعيدة لتزيين المسرحيات العامة، المعابد، والقصور الإمبراطورية، ماحوّل الرخام إلى دليل على النفوذ والامتداد الإمبراطوري. التنوع اللوني (من الأبيض النقي إلى الأخضر والأحمر) أصبح وسيلة لإظهار الثراء والثقافات المحتضنة تحت راية روما.

3. مصر: الرخام والمشابهات الحجرية (توضيح تاريخي)
في مصر القديمة كانت المواد الحجرية مثل الحجر الجيري والجير أكثر شيوعًا في بناء الأهرامات وإكساء الواجهات، وقد عثر على استعمالات للحجر الناعم والمواد المشابهة في التماثيل والكسوات، لكنّ الرأي القائل بأن أهرامات الجيزة كانت مكسوة بالرخام المجلّى مَعروفٌ أكثر كمرجع لصقل المظهر (في الواقع كانت الكسوة غالبًا من الحجر الجيري المصقول). هذا التنوّع في المواد يبرز أن استعمال الأحجار الفاخرة كان مرتبطًا برمزيتها أكثر منه بتقنية واحدة فقط.

4. العالم القديم المقدسي والميثولوجيا الدينية
أشارت مصادر دينية وتاريخية إلى استخدام حجور فاخرة في المعابد والمباني المقدّسة بالمشرق الأدنى، حيث ارتبطت أنواع من الأحجار — وأحيانًا ما يترجم إليها اليوم بعبارة “رخام” أو “أشباه رخام” — بفكرة القداسة والثبات، وهو ما ينعكس في السرد التوراتي والكتابات التاريخية عن معابد أورشليم والمقرّات المقدّسة.
5. الإمبراطورية العثمانية وتركيا: الرخام تعريف جمالي للدولة
في الفترة العثمانية، استخدم الرخام بكثافة في المساجد والقصور والواجهات العامة — خصوصًا رخام مرمرة (Marmara) وأنواع محلية أخرى — ليعكس عظمة الدولة ورصانتها. زخارف الرخام، الأعمدة الرخامية، وأرضيات البلاطات كانت جزءًا من لغة القصور والمساجد التي ربطت بين الوظيفة الدينية والبهاء الإمبراطوري. حتى اليوم، يعدّ الرخام التركي عنصرًا مميّزًا في الفنون المعمارية المحلية والدولية.

6. لماذا اختارته الحضارات؟ دلالات ما وراء المادة
-
الرمزية الدينية والسياسية: لون الرخام الأبيض والنقاء المصقول ربطا بالنقاء والقداسة، مما جعله مناسبًا للمقدسات والقبور الملكية.
-
قابلية النحت: سهولة النقش والتشطيب أدّت إلى استعماله في تماثيل دقيقة وتعابير فنية معقدة.
-
إمكانية الاستيراد كدلالة قوة: استقدام أحجار بعيدة كان يظهر القدرة الاقتصادية والهيمنة الثقافية (كما فعلت روما).
7. حفظ التراث: من النحت إلى المحافظة والقراءة المعاصرة
اليوم تفسّر الدراسات الأثرية والفنية استعمال الرخام كمزيج بين رغبة جمالية وممارسة اجتماعية — الحجر يروي قصص السلطة، الطقوس، والتواصل بين الشعوب. كما تستخدم تحليلات المواد وتقنيات الرنين والعينات الحجرية لفهم أماكن المنشأ وأساليب النقل والمعالجة.

8. دروس للمصمّم المعاصر: كيف نستفيد من میراث الرخام؟
-
وظَّف الرخام لخلق إحساس بالثبات والوقار في الأماكن الرسمية.
-
اختر ألوانًا وأنسجة تفوق مجرد الشكل؛ فكل نوع رخام يحمل رسالة تاريخية وجمالية.
-
امزج الرخام مع مواد دافئة (خشب، أقمشة) لتجنب البرودة البصرية وإضفاء إنسانية على المساحات.

الرخام عبر الثقافات ليس مجرد مادة؛ إنه نصّ تاريخي محفور على حجر. عبر الأزمنة، عبّرت الحضارات بالرخام عن طموحها، دينها، وسلطتها، وما يزال هذا الحجر اليوم وسيطًا يربطنا بماضٍ غنيّ يمكن أن يلهِم تصاميم الحاضر والمستقبل.

